التكوين التربوي في مجال أنشطة التخييم: رؤية نقدية ومنهجية تطويرية

admin
سلايدر
admin26 ديسمبر 2024آخر تحديث : منذ 4 أشهر
التكوين التربوي في مجال أنشطة التخييم: رؤية نقدية ومنهجية تطويرية

التكوين التربوي في مجال أنشطة التخييم: رؤية نقدية ومنهجية تطويرية

بقلم حكيم السعودي

تعد عملية التكوين التربوي ركيزة أساسية في بناء قدرات الأطر المسؤولة ا عن تنشئة الأطفال والشباب داخل فضاءات التخييم، حيث تشكل فرصة لإعدادهم لمهامهم التربوية والتأطيرية.ان التكوين ليس مجرد تدريب عابر، بل هو منظومة متكاملة تهدف إلى تعزيز الكفاءات وصقل المهارات بما يواكب التحولات المجتمعية ومتطلبات العملية التربوية الحديثة، ومع ذلك، تواجه هذه العملية تحديات كبيرة تتعلق بالمضامين التكوينية، طرق الإعداد، وكفاءة المكونين أنفسهم.وعند استعراض الماضي، يتضح أن التكوين التربوي كان يقوم على أسس متينة تعتمد على التخصص والاحترافية، حيث كانت الأطر المكونة تتمتع بخبرات واسعة اكتسبتها من ممارسات ميدانية ومن مشاركة جمعيات وطنية عتيدة ذات تجربة طويلة. اما التداريب فقد كانت مكثفة وموزعة بشكل يضمن إلمام المتدرب بجميع الجوانب النظرية والتطبيقية، وعلى الرغم من محدودية الموارد آنذاك، كان التأثير التربوي لهذه التداريب قوياً وفعّالاً، مما ساهم في إنتاج أطر قادرة على تحمل المسؤولية بجدية وكفاءة. في المقابل، يعكس الواقع الحالي تراجعاً ملحوظاً في جودة التكوين، حيث تقلصت مدة التداريب، وانخفض عدد الأطر المكونة، كما أضحى المحتوى التكويني يفتقر إلى التنوع والعمق المطلوبين. ورغم التطور التكنولوجي وتوفر وسائل تدريبية حديثة، إلا أن الأثر الملموس على المتدربين يبدو ضعيفاً، مما يثير تساؤلات حول أسباب هذا التراجع ومدى فعالية النظام الحالي.
يكمن التحدي الأكبر في عدم وضوح فلسفة التكوين وتباين وجهات النظر حول الأهداف والوسائل المناسبة لتحقيقها. غالباً ما تنتهي اللقاءات التقييمة والنقاشات التشاورية دون الخروج بمخرجات عملية، بل تتكرر ذات الانتقادات والمطالب دون تقديم بدائل ملموسة،و المعضلة ليست فقط في المضامين، بل أيضاً في المنهجية المتبعة التي تركز أحياناً على الخطاب الشفهي بدلاً من التخطيط الاستراتيجي المبني على أسس علمية،ولتجاوز هذه الإشكالات، ينبغي إعادة النظر في عملية التكوين برمتها، بدءاً من وضع رؤية استراتيجية واضحة، مروراً بتعزيز كفاءة الأطر التكوينية، وانتهاءً بإنشاء آليات تقييم مستمرة. ان هذه الرؤية يجب أن تكون شمولية تأخذ بعين الاعتبار احتياجات المتدربين، تطلعات الأطفال والشباب المستفيدين، والظروف الاجتماعية والاقتصادية المحيطة،وعلاوة على ذلك، من الضروري تعزيز التعاون بين مختلف الأطراف المعنية، سواء الوزارات، الجمعيات الوطنية، أو الهيئات . هذا التعاون يمكن أن يسهم في تبادل الخبرات وإثراء المحتوى التكويني. كما أن إدماج التكنولوجيا وتوظيفها بشكل فعال قد يسهم في تطوير العملية التربوية وجعلها أكثر جاذبية وملاءمة للجيل الحالي.ان تحقيق الأهداف المنشودة في التكوين التربوي يتطلب إرادة حقيقية من جميع الفاعلين المعنيين. فالتكوين ليس مجرد استثمار في الأفراد، بل هو استثمار في مستقبل المجتمع ككل. إن نجاح العملية التكوينية سيؤدي إلى تكوين أطر قادرة على إحداث التغيير الإيجابي والمساهمة في بناء جيل واعٍ ومبدع، قادر على تحمل المسؤولية ومواجهة تحديات المستقبل.
ان أهم التحديات التي يجب التركيز عليها عند تطوير التكوين التربوي هو معالجة الفجوة بين الجانب النظري والجانب العملي. إن الاعتماد المفرط على المعلومات النظرية دون توفير بيئة عملية تطبق فيها هذه المعارف يؤدي إلى تخرج أطر تفتقر إلى الثقة والخبرة الضروريتين للتعامل مع الواقع. لذلك، من المهم أن يتضمن التكوين مراحل ميدانية تتيح للمتدربين العمل في ظروف مشابهة لتلك التي سيواجهونها في بيئة التخييم، كما أن إدماج تقنيات التقييم المرحلي والنهائي يمكن أن يكون له دور محوري في تحسين جودة التكوين. على سبيل المثال، يمكن استخدام استبيانات دورية لمتابعة تطور المتدربين وتقييم مدى استيعابهم للمحتوى المقدم. بالإضافة إلى ذلك، من المفيد إشراك المتدربين أنفسهم في تقديم تغذية راجعة حول التكوين، مما يمكن القائمين على العملية من تعديل البرامج وتحسينها بشكل مستمر. ولا يمكن إغفال دور القيادة والإشراف في تحقيق نجاح التكوين،لان وجود مكونين يتمتعون بالكفاءة، الحماس، والقدرة على الإلهام يمثل حجر الزاوية في أي برنامج تكويني ناجح. فهؤلاء المكونون ليسوا مجرد ناقلين للمعرفة، بل هم قدوة يحتذى بها في الالتزام والإبداع. لذا، يتطلب الأمر توفير برامج تأهيل دورية للمكونين أنفسهم لضمان استمرارهم في مواكبة المستجدات وتطوير أساليبهم. علاوة على ذلك، ينبغي النظر إلى التكوين التربوي كعملية مستدامة، لا تنتهي عند انتهاء التدريب، بل تستمر من خلال المتابعة والتوجيه بعد التخرج.و هذا النهج يضمن أن تظل الأطر التربوية على تواصل مع مستجدات المجال، مما يعزز من قدرتهم على أداء مهامهم بكفاءة ويزيد من تأثيرهم الإيجابي على الأطفال والشباب.
إن تحقيق رؤية متكاملة للتكوين التربوي يتطلب تضافر الجهود على جميع المستويات، من التخطيط إلى التنفيذ ثم التقييم. وبدلاً من النظر إلى التكوين كمهمة منعزلة أو نشاط موسمي، يجب أن يصبح جزءاً من استراتيجية وطنية شاملة تهدف إلى إعداد أطر قادرة على مواجهة تحديات الحاضر وبناء مستقبل أفضل.و الرهان على التكوين التربوي هو رهان على الإنسان، وهو الرأسمال الحقيقي لأي مجتمع يسعى لتحقيق التنمية المستدامة،لان الاستثمار في التكوين بجميع مراحله ومستوياته هو الخطوة الأولى نحو بناء مجتمع يعي أهمية التربية ويؤمن بدورها في صناعة التغيير وتحقيق الازدهار، و بهذا النهج، يمكن تحويل فضاءات التخييم إلى مختبرات حقيقية لصناعة الأمل والمستقبل. ومع إدراك أهمية هذا الدور المحوري للتكوين التربوي، يجب أن نعي أن النجاح في هذا المسار لا يتحقق إلا بتجاوز النظرة التقليدية التي ترى في التربية مجرد نقل للمعرفة أو إدارة للأنشطة، بل إن الأمر أعمق من ذلك بكثير؛ إذ يتمثل في بناء منظومة شاملة تركز على الإنسان ككل: عقله، روحه، وجسده.
إن تطوير برامج تكوين تركز على القيم الإنسانية النبيلة كالاحترام، التسامح، المسؤولية، والإبداع، سيضمن تأطيراً تربوياً يحمل في طياته بعداً إنسانياً ينعكس إيجاباً على الأفراد والمجتمع ككل،و هنا تكمن أهمية التكوين في مجالات مثل التربية على المواطنة، حقوق الإنسان، وقيم العيش المشترك، حيث يصبح المربي ليس مجرد ناقل للمعلومة، بل ملهماً وقائداً يسهم في تشكيل شخصيات مستقلة وقادرة على التفكير النقدي والإبداعي. وفي عصر التكنولوجيا المتسارع، لابد أن تتضمن برامج التكوين مهارات التعامل مع الوسائل الرقمية، سواء لتطوير الكفاءات الشخصية أو لتحسين أساليب التواصل مع الشباب والأطفال، فدمج الأدوات الرقمية في العملية التربوية لا يعزز من كفاءتها فقط، بل يفتح آفاقاً جديدة للإبداع والتعلم التفاعلي.
إن التحديات التي تواجه التكوين التربوي ليست مستعصية، لكنها تحتاج إلى إرادة سياسية حقيقية، ووعي جمعي يدرك أن الاستثمار في الإنسان هو الاستثمار الأكثر جدوى. ولعل الشراكات بين القطاع العام والخاص، وبين المؤسسات التعليمية والمجتمع المدني، تشكل مفتاحاً رئيسياً للارتقاء بالتكوين إلى مستويات أعلى من الجودة والكفاءة،لانه ليس مجرد عملية تدريب، بل هو رسالة عميقة تهدف إلى إعداد أجيال قادرة على بناء حاضر ومستقبل أكثر إشراقاً، ومن خلال التركيز على بناء منظومة متكاملة تجمع بين المهارات، القيم، والمعارف، و المواقف يمكننا تحقيق التحول المنشود في فضاءات التخييم وفي المجتمع ككل، وتحويل التحديات إلى فرص للتطور والتميز.
إن التكوين التربوي ليس مجرد مرحلة عابرة أو ممارسة روتينية، بل هو استثمار حقيقي في بناء الإنسان وتنمية المجتمع، إنه عملية مستمرة تعكس تطلعاتنا نحو مستقبل أفضل، حيث تتضافر الجهود لتأطير جيل واعٍ، مسؤول، ومبدع. ولأنه يلامس جوهر الإنسان، فإن نجاحه يتطلب رؤية شاملة تضع القيم، المهارات، والمعرفة في قلب العملية التربوية، وفي ظل التحديات المتزايدة، تبقى الحاجة ملحة لتعزيز هذا التكوين عبر سياسات مبتكرة، وشراكات بناءة، وبرامج تستجيب لواقعنا وتطلعاتنا. فالرهان على التكوين التربوي هو رهان على نهضة المجتمع بأسره، وهو السبيل الأوحد لضمان أجيال قادرة على مواجهة تعقيدات الحاضر ورسم ملامح مستقبل مشرق.

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.