السنة الأمازيغية بين عبق التراث ورهان التجديد
حكيم السعودي
الاحتفال بالسنة الأمازيغية الذي يصادف 14 يناير من كل عام و يعدّ محطة ثقافية مهمة تجمع بين الموروث الشعبي والبعد الفلاحي. يحتفل بهذا اليوم الأمازيغ في المغرب ومدن أخرى على امتداد شمال إفريقيا حيث يشكل فرصة لإحياء العادات والتقاليد وللاحتفاء بالارتباط الوثيق بالأرض الذي يمثل جوهر الوجود الفلاحي والهوية الأمازيغية على حد سواء.و يتميز الاحتفال بتنوع الأنشطة من الأهازيج والحفلات إلى إعداد الأطعمة التقليدية، ومع ذلك،ك فإن هذا الاحتفاء لا يخلو من جدل فلسفي واجتماعي حول قيمته وارتباطه بالواقع الحديث.عند النظر إلى هذا الحدث بمنظور نقدي يمكن طرح السؤال هل يحتفظ الإنسان الأمازيغي ومن خلاله الإنسان العربي أيضًا بتوازنه بين الاعتزاز بالموروث الثقافي وبين تبني منطق العقلانية والتفكير الإيجابي في معالجة قضاياه الثقافية والاجتماعية والاقتصادية؟ الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط يذكّرنا في نظريته حول التنوير بأن “الإنسان يجب أن يتحرر من القصور الذاتي الذي يبقيه في حالة تبعية للأفكار الجاهزة وأن يستخدم عقله كمرشد مستقل.” بناءً على هذا المنظور يمكن القول إن الاحتفال بالسنة الأمازيغية ينبغي أن يتجاوز مجرد الطقوس الموروثة إلى التفكير في كيفية استثمار هذه المناسبة لتعزيز الحوار الثقافي وتطوير رؤية اقتصادية واجتماعية مستدامة.في المقابل هناك من يرى في هذه الاحتفالات قيمة رمزية وثقافية تسهم في تعزيز الهوية والحفاظ على التنوع الثقافي. إدوارد سعيد أشار في كتابه “الثقافة والإمبريالية” إلى أن “الثقافة ليست مجرد مظاهر شكلية بل إطار للوجود ذاته.” وبذلك فإن الاحتفاظ بالموروث الأمازيغي قد يكون وسيلة لخلق توازن بين الأصالة والحداثة شريطة أن يُدار هذا التوازن بعقلانية، فالاحتفال بالماضي لا يعني الانغلاق فيه بل يمكن أن يكون فرصة للتأمل في معاني الهوية والانتماء وتجديدها بما يتماشى مع متطلبات العصر.
الدين بدوره يمكن أن يقدم إضاءات مهمة في هذا النقاش. يقول الإمام الشافعي: “رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب.” هذه القاعدة الذهبية في التفكير يمكن أن توجهنا نحو تبني مرونة فكرية تعترف بالموروث دون أن تجعله قيدًا على الإبداع والتجديد، فالدين والعقل ليسا بالضرورة على طرفي نقيض بل يمكنهما أن يتكاملا في صياغة رؤية شاملة تدمج بين الأصالة والمعاصرة.من الجانب الاقتصادي والاجتماعي،ك يمكن استلهام نظرية رأس المال الثقافي التي قدمها بيير بورديو والتي تشير إلى أن الرموز الثقافية يمكن أن تتحول إلى رأس مال إذا أُحسن استثمارها.ان الاحتفال بالسنة الأمازيغية قد يكون فرصة لتعزيز السياحة الثقافية ودعم الصناعات التقليدية مما يساهم في تحقيق تنمية محلية مستدامةزغير أن هذا يتطلب تفكيرًا استراتيجيًا لا يعتمد فقط على العادات بل ينظر إلى الموروث كأداة للتغيير الإيجابي.
يعكس الاحتفال بالسنة الأمازيغية َ غنى التراث الثقافي لكنه يدعو أيضًا إلى إعادة التفكير في علاقتنا بالماضي والحاضر،و يجب أن تكون فلسفة العقل والمنطق حاضرة في إدراكنا لهذه المناسبة حيث يمكن أن تشكل جسرًا بين الحفاظ على الهوية والانفتاح على متطلبات العصر. وكما قال المهاتما غاندي: “كن التغيير الذي تريد أن تراه في العالم.” الاحتفال بالموروث ليس مجرد استدعاء للذكريات بل فرصة لإعادة صياغة العلاقة بين الإنسان ثقافته، وحاضره.إذا ما نظرنا بعمق إلى هذه العلاقة بين الماضي والحاضر نجد أن الاحتفال بالسنة الأمازيغية ليس مجرد طقس يعبر عن عادات وتقاليد بل هو جزء من منظومة ثقافية تعكس ارتباط الإنسان ببيئته وزمانه. ومع ذلك فإن العقلانية تفرض علينا إعادة قراءة هذا الموروث لا لنقضي عليه أو نلغيه بل لنضعه في سياقه الصحيح بحيث يكون دعامة للتنمية والابتكار وليس مجرد قيد يعيدنا إلى الوراء.لقد أكد الفيلسوف هيجل في تحليله للتاريخ أن “التاريخ ليس تكرارًا بل حركة تطور للأمام.” ومن هذا المنطلق فإن إعادة إحياء موروث كالسنة الأمازيغية ينبغي أن تراعي ديناميات العصر،فلا يمكن لمجتمع أن ينمو إذا اكتفى بالحنين للماضي دون أن يحوّل ذلك الماضي إلى وقود يحرّك عجلة الحاضر والمستقبل. هنا تكمن الحاجة لتوظيف الموروث بطريقة خلاقة بحيث يصبح جزءًا من مشروع شامل للتنمية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية.وفي هذا السياق يبرز سؤال أساسي كيف يمكن للإنسان الأمازيغي أو العربي عمومًا أن يحافظ على هويته دون أن يسقط في فخ الانغلاق أو التعصب؟ ربما يمكننا الاستفادة من حكمة ابن رشد الذي شدد على أهمية التوفيق بين النقل والعقل. فقد قال: “الحكمة هي النظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع.” هذا المنطق يدعونا إلى التأمل في موروثنا بعين ناقدة وعقلانية، دون أن نقطع الصلة بجذورنا.
الاحتفال بالسنة الأمازيغية كغيره من المناسبات الثقافية، يمكن أن يصبح منصة للحوار والتبادل الثقافي ليس فقط داخل المغرب بل على مستوى العالم. فقد أثبتت التجارب الإنسانية أن التنوع الثقافي ليس عائقًا أمام التقدم بل هو مصدر قوة وإبداع ومع ذلك، فإن تحقيق هذا التوازن يتطلب وعيًا عميقًا وإرادة جماعية للتغيير. وكما قال أنطونيو غرامشي: “المثقف هو من يستطيع أن يتفاعل مع الواقع وأن يسهم في تغييره.” وعلى الرغم من ذلك لا يمكن إغفال الجانب الاجتماعي والنفسي لهذه الاحتفالات، حيث تشكل فرصة لتجديد الروابط الأسرية والمجتمعية. إن الاحتفال بالسنة الأمازيغية يحمل في طياته أبعادًا رمزية تعزز الشعور بالانتماء والهوية. لكن هذا الانتماء يجب أن يكون منفتحًا على الآخر، بحيث لا يتحول إلى وسيلة للعزلة أو الانغلاق. لا بد أن ندرك أن الحفاظ على الموروث ليس هدفًا في حد ذاته بل وسيلة لبناء مستقبل أفضل. وكما قال الفيلسوف الفرنسي بول ريكور “الذاكرة ليست مجرد استعادة للماضي بل هي فعل إبداعي يعيد صياغة الحاضر.” الاحتفال بالسنة الأمازيغية يمكن أن يصبح نموذجًا لدمج التراث في مشروع تنموي شامل إذا ما اعتمدنا على العقل والتفكير الإيجابي كمنهج أساسي وبذلك يصبح هذا الاحتفال ليس فقط فرصة لتكريم الماضي بل أيضًا لتأسيس رؤية جديدة تسهم في تقدم المجتمع وازدهاره.لكن لتحقيق هذا التوازن الدقيق بين الأصالة الحداثة َو يجب أن نبتعد عن التقديس المفرط للموروث الذي قد يعيق التجديد، ونحرص في الوقت ذاته على ألا يتحول الانفتاح إلى ذوبان يفقد الهوية معناها. في هذا السياق نجد أن التفكير النقدي الذي دعا إليه رينيه ديكارت يشكل منهجًا مناسبًا لفهم هذا التداخل. فقد أشار إلى أهمية الشك المنهجي في تقويم الأفكار والممارسات حيث قال: “الشك هو بداية الحكمة.” الشك هنا ليس رفضًا، بل إعادة نظر تهدف إلى فرز ما هو صالح للبقاء وما يجب تجاوزه أو تجديده.لنأخذ على سبيل المثال الطقوس المرتبطة بالسنة الأمازيغية: الذبائح، الأهازيج، والأطعمة التقليدية. هذه الممارسات ليست مجرد طقوس، بل هي رموز تعبر عن صلة الإنسان بالطبيعة ودوران الفصول، مما يعكس عمق العلاقة بين الثقافة والمحيط الطبيعي. ومع ذلك، فإن هذه الرموز تحتاج إلى تأطير جديد يجعلها أدوات لبناء مجتمع منتج، يُعيد صياغة العلاقة بين الماضي والحاضر برؤية مستقبلية.من ناحية أخرى، يمكننا تسليط الضوء على الجانب الاقتصادي لهذا الاحتفال. كما يرى كارل ماركس، فإن أي نشاط ثقافي أو اجتماعي لا ينفصل عن السياق الاقتصادي. فلو استُثمرت هذه المناسبة في دعم الحرف التقليدية، وتنظيم معارض محلية، وتعزيز السياحة الثقافية، لتحولت إلى محرك تنموي يسهم في تحسين ظروف عيش السكان المحليين.لكن هذا لن يتحقق إلا إذا توافرت الإرادة الجماعية لتوجيه هذه المناسبة نحو أهداف واضحة تخدم المجتمع ككل. وهذا يتطلب إدماج الشباب، خاصة أن الشباب هم الطاقة الفاعلة للتغيير. كما قال مالك بن نبي: “المجتمع الذي لا يوجه شبابه لا يمكنه أن يخطط لمستقبله.” الشباب هنا ليسوا فقط متلقين للثقافة، بل يجب أن يكونوا فاعلين في تطويرها وتجديدها.
من زاوية دينية الاحتفال بالسنة الأمازيغية لا يتعارض مع التعاليم الإسلامية، طالما أنه يحتفظ بجوهره كفرصة للتواصل والتآزر. وقد أوضح الفقهاء أن الإسلام يدعو إلى احترام التنوع الثقافي، ما دام لا يتعارض مع المبادئ العامة. وفي هذا السياق، نجد أن الإمام محمد عبده قال: “الإسلام لا يعادي العلم ولا الحضارة، بل يدعو إلى ما ينفع الناس ويمكث في الأرض.”لا بد أن نعي أن الموروث الثقافي ليس حجر عثرة في طريق التقدم إذا ما أُعيدت صياغته بمنهجية عقلانية وإبداعية. السنة الأمازيغية، بما تحمله من رمزية، يمكن أن تكون بوابة لإعادة التفكير في علاقتنا بالهوية والتاريخ، بعيدًا عن الجمود أو الاستلاب. وكما قال جبران خليل جبران: “ليس التراث ما نحفظه من الماضي، بل ما نزرعه في المستقبل.” بهذا المعنى، يمكن للاحتفال بالسنة الأمازيغية أن يكون دعامة لحوار مجتمعي واسع يعزز قيم التعددية، ويحقق التنمية والازدهار في إطار رؤية ثقافية متجددة.و يبقى الاحتفال بالسنة الأمازيغية رمزًا عميقًا لتجذر الهوية الثقافية وارتباطها الوثيق بالطبيعة والتاريخ. ومع ذلك، فإن هذا الرمز يكتسب معناه الحقيقي حينما يتحول إلى قوة محركة للتغيير الإيجابي، لا مجرد ذكرى عابرة أو طقس تقليدي. التحدي الأكبر يكمن في قدرتنا على التوفيق بين الحفاظ على هذا الموروث من جهة، وتوظيفه كأداة للإبداع والتجديد من جهة أخرى، في ظل عالم متغير يتطلب التفكير النقدي والابتكار.إن فلسفة العقل تدعونا إلى تجاوز الانغلاق الثقافي نحو أفق أرحب، حيث يصبح التراث جزءًا من مشروع بناء المستقبل، دون أن يفقد أصالته. وكما قال محمد إقبال: “لا تسكن الماضي، فالماضي موت، والمستقبل حياة.” لذا، فإن الحفاظ على السنة الأمازيغية ينبغي أن يكون مشروعًا متكاملًا يعزز القيم الإنسانية، ويربط بين الثقافة والتنمية، ليكون احتفالًا لا بالماضي فقط، بل بالحاضر والمستقبل أيضا.
المصدر : https://chamssalhakika.ma/?p=9767