الثقة…رأسمال إجتماعي
الاصل في طبيعة العلاقة بين افراد المجتمع الثقة. فهي التي ترفع من منسوب الشعور بالامن والاطمئنان بين الناس ،العنصران الاساسيان لكل تعايش مرغوب ،ولكل محيط سليم وضروري للابداع والتنمية الذاتية ،وتيسيرا للتماسك الاجتماعي الضامن للنمو الاقتصادي .
ومع التطور الذي تعرفه الحياة بتشعباتها الاقتصادية والتكنولوجية والاجتماعية والسياسية وبخطوات متتالية ،لم تعد الثقة في صورتها الخام brute (الحسية ،والاخلاقية) .كافية لضمان التعايش المجتمعي ،الضروري لكل تنمية مستحبة ،وبالتالي فككل المفاهيم ذات الحمولة القيمية ، فقد ابدع الفكر البشري في هندسة منظومات واليات توافقت عليها المجتمعات الحديثة ساهمت في عصرنة مفهوم الثقة حتى تبقى هذه الاخيرة قوة وطاقة force et énergie اجتماعية وجماعية بدونها لا يمكن ان تتحرك عجلة التنمية .
اليست التنمية مبرر الوجود وغايته وشرط استمرار الحياة ؟
ولهذا فبقدر ما هيكل المجتمع نفسه ونظمه -في مؤسسات سواء اجتماعية (الاسرة) او ادارية (مرافق ادارية ) او اقتصادية (المقاولة في تعدد اشكالها ) او سياسية ( حكومة وبرلمان واحزاب ونقابات )-بقدر ما ابدع الفكر البشري صيغا جديدة لملائمة هذه المؤسسات مع صيغ الديمقراطية ومفهوم المصلحة العامة و المشاركة في الحكم والتدبير ،وتعميق مجالات حقوق الانسان ،وترسيخ الشفافية وتطوير الحكامة الجيدة مع تنويع مؤسسات الوساطة الكفيلة بتنظيم السوق ،و بتجاوز الاحتقان الاجتماعي والسياسي، ما دام انه من الطبيعي في حياة اي مجتمع مصالح الناس والعباد تختلف وتتعارض .
وفي هذا السياق تَجَبَرَ وعَضُمَ مفهوم الثقة وتطور من ضابط اخلاقي ومعنوي الى ميكانيزمات ومنظومة كاملة قابلة للقياس والتقييم بباروميترات baromètres متداولة بمراكز البحث والتفكير في العالم ،قاسمها المشترك ،ان دمقرطة المجتمع والدولة ترفع من منسوب الثقة بين الافراد والمؤسسات بكل انواعها .
وعليه فبعد هذا البناء النظري المتوافق عليه. سأحاول مقاربته وقياسه على واقع بلادنا الاجتماعي والاداري والاقتصادي والسياسي .
وهكذا ففي الوقت الذي وُجِدَت فيه الادارة لخدمة كل المتعاملين معها من المرتفقين ،ففي ادارتنا يسود شعور عام هو ان كل مرتفق قصد الادارة فهو محط شبهة اما بالغش اوعدم الصدق في اقواله وافعاله وعليه ان يثبث بالوثائق العكس .
في حين ان الادارة الحديثة في العالم اثبتت فعاليتها ونجاعتها بالمراقبة البعدية وليس بتعقيدات مساطر والعرقلة القبلية .
وبالتالي فمن الطبيعي ان يبادل المواطن الادارة نفس شعور الشك والريبة وعدم الثقة . -فالثقة عملية ثنائية وتقابلية كرقصة Tango لا تستقيم الا باثنين -. ولنا ان نتخيل ما هو حجم المبادرات الايجابية والاصلاحات المهمة التي تقوم بها الادارة العمومية في مجالات عديدة ،لكن رغم ذلك فباروميتر الثقة يكاد يتزحزح ليعود الى مكانه ،حتى اصبح المواطن عندما يحصل على وثيقة ادارية بشكل عادي او عن طريق الرقمي تجده يتشكك في حجيتها الادارية ،وعند عودته الى منزله يضعها الوثيقة فوق التلفاز او الثلاجة ،وهو غير مطمئن على جدواها وذلك لعمق الشك والريبة في تطور الادارة.
ولعل ما يعمق هذا الاحساس كذلك فبِحَرَمِ نفس الادارة وبمرافقها يخيم جو من الحدر بين الرؤساء والمرؤوسين ، مما يعطل بشكل مطلق كل مبادرة فردية او جماعية .ويتحول بذلك العمل من متعة الى محنة ونقمة.
اما اذا كان المتعامل مع الادارة فاعلا اقتصاديا او مستثمرا محتملا خاصة الصغير والمتوسط فعوض النظر اليه والتعامل معه باعتباره منتجا للثروة-لان الادارة في اخر المطاف ليست الا مدبرة للثروة -فمع الاسف يُنظر للمقاول ،وكأن مصدر رأسمال مقاولته مشكوك فيه وان ارباحه ريع ، وبالتالي فلجوءه الى الادارة، هو للتحايل عليها وللحصول على امتياز . ماعدا ذلك عليه ان يثبت العكس .نفس الشعور يحمله المقاولون ورجال الأعمال اتجاه الادارة .فكلما كان الحديث بين رجال الاقتصاد عن الادارة والموظفين فلسان حالهم واحدٍ ” الادارة بين راشٍ وَمُرْتشي الا من رحم ربك” بتعبير احد وزراء العدل بالمغرب عندما فوجىء بسؤال عن قطاعه وهو حديث التعيين فيه .
فهل الوضع بكل هذه السوداوية ببلادنا ؟ اكيد لا وان الصورة مبالغ فيها لكن هذا هو الانطباع العام الذي يعمقه انعدام الثقة كقيمة معنوية ومحورية .
وفي الاخير اود ان اشير الى الدراسة التي أعدها البروفيسور لويجي دجيغاليس واخرين وخلصت الى ” أنه حيثما تنشأ مشاعر الثقة وتقوم على أساس متبادل في السياسات والمؤسسات والأنظمة ،ستتمكن الاقتصادات من تحقيق مزيد من الإنجازات.
ولكن عند نضوب مشاعر الثقة، أي عندما يصبح الاعتقاد السائد لدى الناس أن “النظام ” système لا يعبر عن قيمهم، وأنه لم يعد يعمل لصالحهم، سينخفض مستوى أداء الاقتصادات. “
وعليه ،اذا كان هذا هو الحال في ادارتنا وقضائنا ومقاولاتنا فماهو الوضع في الوسط السياسي ببرلمانه وحكومته واحزابه ونقاباته . ذاك ما ساحاول تناوله في فرصة اخرى .
عبد الرفيع حمضي
المصدر : https://chamssalhakika.ma/?p=5239